الأفق الآخر

استراحة عالم الجودة
Email : 126k 12k

بقلم‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬حمد‭ ‬عقيد

دائرة‭ ‬التأثير

هل تراودك فكرة تعديل ما تراه خاطئا ومعوجا في العالم، أو في بلدك، أو في منطقتك؟ في سن معينة وفي مستوى معرفة محدد يظن الكثيرون أن كثير من أمور الدنيا يجب أن تتغير وفق المفهوم الصحيح الذي يقتنعون به ويؤمنون بصحته.. وقد تتلاشى هذه الطموحات شيئا فشيئا بتطور الفرد في السن وفي  المعرفة، لكن بعض أثرها يظل باقيا وإن ضاقت الدائرة التي نريد تعديلها.. ولكن معظمنا لا ينتبه وهو في هذه الحالة أنه أضاع زمنا وفكرا ومجهودا يمكنه أن يعينه لو سلط رؤيته على دائرة صغيرة تبدأ من نفسه وتتسع إلى ما حوله في المحيط الضيق، هذه الدائرة التي يمكننا بالفعل أن نؤثر فيها، وهي تسمى دائرة التأثير.. أما ما هو خارجها فيظل في إطار اهتماماتنا التي لا يد لنا في تغييرها.

المطور الأمريكي الشهير (استيفن أر كوفي) بهر الكثيرين، وأنا منهم، بحديثه المفصل حول ارتباط النجاح باقتراب الفرد من دائرة التأثير (circle of influence) وابتعاده عن دائرة الاهتمام (circle of concern).. مع أن نظريته في هذا المجال لا تخرج عن إرثنا الثقافي الذي نهلنا منه في سن مبكرة، بتلقينا للأحاديث النبوية الشريفة والمأثورات، ومنها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، و «لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم», وهذا على سبيل المثال..
غير أننا تلقينا هذه الكنوز على سبيل (التلقين) وبغرض الحفظ ومعرفة معاني الكلمات.. لدرجة أننا نتعامل مع فقرة (ما يرشد إليه الحديث، أو ما يدل عليه الحديث) معاملة النص الذي ينبغي استظهاره وإعادة كتابته في ورقة الامتحان.. مجرد إملاء وتلقين بلا نقاش ولا مناظرة ولا أدلة.
لذلك أدهشتنا براعة استيفن كوفي وأسلوبه الجميل في الشرح والتبسيط والاستدلال، ليبرهن أن التركيز على دائرة التأثير هو سر النجاح، وأن الخروج عنها إلى دائرة الاهتمام، وهي الدائرة التي يكون التغيير فيها خارج قدرات الفرد، هو سر الفشل.
دعونا نطبق هذه النظرية على أوضاعنا الخاصة، ولنتخذ الأحزاب مثالا، والأحزاب هي قمة هرم الممارسة السياسية في الأنظمة الديمقراطية، لذا فإن تأثير أوضاعها الداخلية يتمدد ليشمل البلد بكاملها، فدائرة تأثير الحزب السياسي مهما صغر تمتد لتسع كل البلد، وإن كانت تبدأ من أوضاع الحزب الداخلية وحرصه على التنيظيم والترتيب وعقيد المؤتمرات وتنزيل الديمقراطية في  داخله بشكل عملي، ليخرج إلى الدائرة الأوسع وهو حزب يعرف كيف تمارس الديمقراطية وكيف يكون التنظيم. وإن كان الوضع الماثل هو أن معظم الأحزاب لا تلتفت إلى الديمقراطية في داخلها، وبعضها يظل قائده واحدا حتى يخرج عن الدنيا ليرثه من يليه من أهله.. وهذا حال الأنظمة الملكية، وليس حال أحزاب تسعى لتطبيق الديمقراطية. 

ومع ذلك تظل هذه الدائرة، دائرة العمل الوطني بكل هذا الاتساع لا ترضي طموحات الكثير من قيادات الأحزاب والكثير من عضويتها، ليلتفتوا إلى تركيز اهتماماتهم داخل دائرة التأثير.. ولكنهم يصرفون الكثير من جهدهم وطاقتهم وتصريحاتهم في محيط (دائرة الاهتمام)، الدائرة التي تخرج عن قدرتهم على التأثير المباشر، الدائرة التي يعتبر أي حديث فيها مجرد نقد لا يجدي، وأي مجهود فيها مجرد حرث في البحر..
ليس ذلك هو نقطة الضعف الحقيقية، وإن كان ذو أثر، ولكن نقطة النقص التي أصابت مكوناتنا السياسية والمجتمعية في مقتل هي انصراف الأفراد الذين يشكلون لحمة هذه المكونات في موقاعهم المختلفة، انصرافهم عن دائرة تأثيرهم المباشرة، وعن أداء مهامهم التي توكل إليهم، إلى دائرة الاهتمامات الخارجية، وتفرغهم لانتقاد زملائهم وقياداتهم داخل الكيان.. بالتشكيك في نوايا هذا والتأكيد أن ذاك لا يستحق الموقع الذي هو فيه، التصدي للقرارات بالتفنيد وإظهار المعايب، التناول الحريص للمناقص والسلبيات.. حتى يصل الأمر إلى مرحلة (الانسلاخ) من هذا الكيان والانضمام إلى ذاك، أو الانشقاق وتشكيل كيان رديف سرعان ما تصيبه أمراض الكيان الأب..!!
دائرة الاهتمام:

 دائرة تحوي أمورا تهمك وتؤثر فيك حاضرا ومستقبلا، وتستحق الالتفات والتوقف عندها، ولكن صفتها الأساسية التي تدعوك للابتعاد عنها هي صفة عدم القدرة على التأثير، فإذا كنت لا تستطيع التأثير بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في تغيير ما يحدث في هذه الدائرة، فأنت تضيع زمنك، بل تضر بنفسك وبمن حولك بإضاعتك الزمن والجهد في التمسك بها.. فهي لا تعنيك، وتمسكك بما لا يعنيك أو التفاتك له يقود إلى نتيجة واحدة هي أنك ستقصر فيما يعنيك، لأن (صاحب بالين كذاب).
الصحافة، سميت مهنة المتاعب لأن دائرة تأثيرها هي الأكبر (تقريبا)، ونحن الصحفيون نجلب لأنفسنا الهم والسهر والقلق بسبب اتساع هذه الدائرة، لذا فإننا ندعو إخوتنا السياسيين إلى التفرغ لدوائر تأثيرهم وترك مهمة النقد والتقييم للصحافة، فهي مهمتها في الأساس، وأن يلتفتوا إلى ما يجمعهم ويعضد وحدة صف كياناتهم من إيجابيات، ونحن كفيلون بلفت أنظارهم إلى السلبيات بغرض معالجتها، والتنويه بالإيجابيات بالتأكيد. 

الوسوم :

مقالات ذات صلة